كفلسطيني من طيرة حيفا/الكرمل، لم أُولد في فلسطين، ولم أزرها يوما، بدأت أشعر بالخوف على حتمية الرجوع للطيرة، من سطوة الطرح السائد، لذا قررت أن أَدْلُقَ فلسطينيتي على هواي، دلْقة وراء دلْقة لاستنبت الأمان، واستنهض الرجوع.

دولة فلسطين لا تقع في الضفة الغربية لنهر الأردن، وغزّة و شرقي القدس، بل العكس؛ فإن هذه الكيانات الجغرافية الثلاث (الضفة وغزة وشرقي القدس) تَقَعُ في فلسطين، وقعا لا رجوع عنه ولا حياد، ويشكّلون جزءاً منها فقط. تتحاذق غالبية الصحافة العالمية، والعربية ومنها الفلسطينية، وفي ظهرهم الإعلام في محاولات مستمرة لاختلاق لغة جديدة مطاطية ودبلوماسية، تستلهم قوامها من الأخلاقيات العالمية، والحقوق الإنسانية، والقوانين الدولية والأوسلوية، والتعاليم المؤسّساتية، والعفو الدولية ( قد تطول القائمة لتبدو على وزن قصيدة عيناك ليالٍ صيفية) لتثبيت هذه الحقيقة المعكوسة، فيضعون في وجهك مصطلحات لزجة تقوم بزحلقة فلسطين في وجدانك، وقَلْبِها على رأسها. وشيخُ المتحاذقين هو الذي يُشير إلى فلسطين التي احتُلّت منذ ثمانية وأربعين عاما، فتسأله كيف؟ فمنذ عام ١٩٤٨ ل عام ٢٠١٥ هناك سبع وستون سنة، فيقول لك: لا تآخذني رياضياتي على قدّي!

image

استخدام خطاب اختزال فلسطين  في الضفة وغزة وقليل من القدس، أصبح فاقع الحضور، مكثّف الظُّهور، ومخاطره آخذة بالتّشعُب وأخشى القول بالتّجذُّر. هذا الخطاب ،الذي تَقَيَأَتْهُ أوسلو، وتبنيناه سلطة وشعبا، واعتبرناه فجوتنا السحرية في الفراغ، لندخل عبرها إلى بيّاراتِ يافا، وبحر عكا، وميناء حيفا، أو كما كان يُعرف بين أهالي طيرة حيفا بال ‘بور’ (يعني port ). أصبح اليوم خطابا تكتيكيا مُغمّسا بالدبلوماسية (ونظيرتها الديمقراطية) نستخدمه لِشَكْمِ الغاضبين من الجيل اليافع، كي لا يهدموا ما بنيناه بِعَرَق مفاوضينا الأشاوس! و نستخدمه كذلك لتنسيقٍ عصريٍ آخر، يختصُّ بتنظيم الرحلات للأكاديميين والناشطين والحقوقيين لِشَمْطِ المحاضرات التعليمية حول العالم عن المأساة الفلسطينية في سياق تطْييز “إسرائيل” للقوانين الدولية والمعاهدات الكونية، فتسمع في المحاضرات نِسباً وأرقاماً ًإحصائية مُقنعة وجميلة، والأهم؛ أنها منطقية. ويعرضون شرائحاً منسقة على البور بوينت (Powerpoint)، تليق بالمقام، ويستخدمون صوراً عالية الجودة لبيتٍ مهدم، أو طفل ممزق، أو أم ثكلى تقف على حاجز. صورٌ كفيلةٌ باختراق أعتى أسوار العواطف، واستدرار كل ما فيها (إن وجِد).

~~//-،-//~~

انتهت المحاضرة المُقامة في إحدى جامعات لندن، والمُعنونة “إسرائيل تُصادر المياه الفلسطينية، لتروي مستوطناتها غير الشرعية”، وأظهرت متحدثتنا براعةً، تَغيظُ منافسيها، في التّحدث باللغة الإنجليزية، وحافظت على تغيير نغمة صوتها كلما اشتدّت العاطفة، وأبقت على التقاء نظراتها بنظرات الحاضرين دلالةً على الحرفية. وبعد المحاضرة،  وقفنا بجوار القاعة مع المتحدثة نفسها، ومجموعة من الشّابْات المثقفات والشبّان المثقفين لاحتساء القهوة، ودارت أحاديث كثيرة، على نحو إمكانية تغطية المُحاضرة صحفيا، وحول قبول المتحدثة لطلبِ إعادة المحاضرة في جامعة قريبة من لندن (من مبدأ اللي عليك عليك، أو ما هي صايرة وصايرة)، وهناك من امتدح المُحاضِرة، والمُحاضَرة بالتأكّيد على أهمية موضوع المياه في فلسطين، مُستخدما بعض ما جاء في المُحاضرة من الإثباتات الإحصائية، والتقارير الحقوقية . دارت القهوة في الرؤوس، وبشكلٍ مواز، طرح أحدهم طرحا حول خطورة انتهاكات “إسرائيل” للنظام التربوي عن طريق طرح مناهج عنصرية للتمييز ضد الفلسطينيين، واقترح، بِكُل ودْ، استعداده للتعاون من أجل إسقاط ورقة التوت وإظهار عورة “إسرائيل” التي لم يُفضَح عرضها في البلاد بعد!  ثم مال عَلَيْ، ربما أثاره صمتي، وقال بلهجة إنجليزية، ولَكْنَةٍ لندنية: أنت أيضا من فلسطين؟ قلت نعم، قال رائع، ثم أردف: من الضفة، أو غزة (لم يذكر شرقي القدس، ربما لتقنين السؤال) فأجبته ببرود ساخن، أنا من طيرة حيفا في شمال فلسطين، فرَمقني بنظرة سجّان.

حدا يشوفلنا ممسحة لنمسح هالنْتَاقَة

٣١  اغسطس ٢٠١٥