يُعتبر جسمُ الكائن البشري جميلا ومُغريا للعديد من الكائنات الدقيقة، لذلك تحاول تلك المخلوقات اختراقه كُل ما دق الكوز بالجرة. الڤيروسات تُشكل جزءاً من هذه الكائنات، وڤيروس شلل الأطفال – المُستخدم كنموذج في سلسلة المقالات هذي – هو نوع واحد من الڤيروسات. استكمالا للمقال السابق، يعرض المقال الحالي المعارك الطاحنة التي يخوضها الجسد في مقارعة هذا الحي/الميت. وكيف قادنا حبّنا الشَرِه – نحن معشر البشر – للمعرفة إلى فهم هذه المعارك ومن ثم استخدام نُفوذنا للعثور على واسطة الخير أو ما يُعرف باللُقاح؛ لِحقن الدماء وتوفيرها وقوداً لحروبنا خارج الجسد.

جُلُودنا، ولا فرق في اللون، تُشكل الدِرْع الخارجي لدحض الهجوم الميكروبي على أجسامنا. ولكن تلك الكائنات الدخيلة تستغلّ حدوث الجُروح، لتتقدم إلى داخل الجسد وهناك ستواجه آليات دفاعية من نوع مختلف. أما على الصعيد الداخلي، فإن المادة المخاطية المُنتشرة على جدران القناة الهضمية والمجاري التنفسية تُشكل درعاً لزجاً يعمل على عرقلة الميكروبات، التي تتسلل من فتحات ومسارب الهواء والطعام، وابتلاعها كما تبتلع رِمال الربع الخراب من يحاول قطع فيافيها. وبالإضافة لذلك، على الميكروبات التي تدخل إلى القناة الهضمية  – مثل ڤيروس شلل الأطفال – أن تجتاز البحيرة الحارقة في المَعِدَة، المُعدّة لهضم الطعام وحرق الميكروبات بحموضتها. ڤيروس شلل الأطفال مُجهز بشكل حَربي ليخترق كل تلك الحواجز الدفاعية، إذ أنه يُلاطش بلا توقف ويتحرك كرصاصة باتجاه الهدف دون الاكتراث بنيران المَعِدة. حال الوصول، يشترك الڤيروس في رقصة الدبكة ويٓشتبك مع الدبّيكة على سطح إحدى الخلايا (كما ورد في المقال السابق) ثم ينسلّ في تلك الخلية ليُنَفّذ مهمته باعتقالها وتوظيف حياتها في سبيل تناسله. في داخل الخلية هناك جهاز مُخابرات يعمل على مدار الساعة يتكون من جزيئات بروتينية لها القدرة على استشعار واكتشاف أي غريب تخوّل له نفسه الدخول إلى مضارب الخلية. هنا أيضا على الڤيروس أن يُحسِن الكَرّ والفرّ لينجو من جهاز المُخابرات ويتمكن من إخضاع آلية الخلية في النقل والترجمة ليستنسل جيش الفتح الڤيروسي الموعود قبل أن يتم اكتشافه.

لكن ماذا لو تم اكتشاف الڤيروس في داخل الخلية؟ في هذه الحالة تقوم الخلية بواسطة جهازها المخابراتي بعمليات تنسيق أمني على نطاق واسع (بالطبع دون التنسيق مع العدو الڤيروسي) ينتج عنه إغلاق كافة مداخل الخلية، وتكثيف الحراسة على الممرات والطُرق المؤدية إلى الخارج. بعد ذلك تقوم الخلية ببعث إشارات سرّية لكافة الخلايا المجاورة لإبلاغها عن هذا العدوان الغاشم، والتي بدورها تُطَرْبِقُ جميع مداخلها بإحكام، وتحشد جيوشها في الداخل استعداداً للحرب. بالتزامن مع تنفيذ كل ذلك، تُرسل الخلية ببعضٍ من رُسلها لاستدعاء ما يُعرف بالخلايا المجنّدة (العسَسْ)؛ وهي خلايا مُسلّحة، بحوزتها تصريحٌ مُطلق بإطلاق النار، تجوب الأنسجة ومطارح جريان الدم في الجسد ليلَ نهارْ، لترصُد الدُخلاء.  تلك الرُسلُ تحمل في جعبتها رسالة نداء واحدة لِجُند العسس، مفادها: ‘نحن الخلية الواقعة في الجزء الجنوبي من الجهاز الهضمي بجانب البنكرياس. لقد نجح جهازنا الاستخباراتي بالكشف عن هوية بعض الغرباء الذين من شأنهم تهديد الأمن الجَسَدي. نظرا لذلك قمنا باتخاذ كافة الإجراءات الأمنية اللازمة لاحتجازهم داخل الخلية، وتم إبلاغ كافة الخلايا المجاورة، ونحن الآن على أُهْبَة الاستعداد للموت حسب المادة المذكورة في الميثاق الوجودي ليحيا الجسد. لذا نرجو التكرّم بِلَمْلَمَةِ أشلائِنا، وإرسالها لمركز التدقيق الأمني، ليتم فرز جثث الغرباء من حناياها’. بعد أن تطمئن الخلية على سلامة كُل مبعوثيها لأجهزة الأمن في الجسد، تقوم بتنفيذ عملية استشهادية، وتُفجر نفسها بعد تلاوة النشيد الجسدي. حين وصول جند العسَس إلى موقع المعركة، ينقسمون إلى فرقتين، الأولى تقوم بمداهمة الخلايا المجاورة التي نجح الڤيروس في اقتحامها ولم تستشهد بعد. والثانية تقوم بجمع أشلاء الشهداء وأخذها إلى مركز التدقيق الأمني في العقد الليمفاوية. هذا الجزء من خطة الجسد الدفاعية يُعرف بالمناعة الفطرية أو الأولية،  ويتم تفعيله داخل الجسد في غضون ساعات من حدوث الغارة.

في العقد الليمفاوية ينعقد الاجتماع بين جنود العسس الفرقة الثانية وأعضاء مركز التدقيق الأمني. هناك يتم فرز جثة الڤيروس، والتعرف عليها، ومن ثم  تصويرها. حينئذ يتم إصدار قرارٍ باستخدام صُورة الڤيروس، كنموذج للهدف، لتدريب فَيْلقين عسكريين يُعرفان بفيلق التدمير الخلوي وفيلق التعقّب، مهمتهما التعرف على هذا الميكروب (ڤيروس شلل الأطفال) بشكل مُتخصص ودقيق والنيل منه . فٓيلق التدمير الخلوي يُعنى بمُهاجمة الخلايا المُستعمَرة من  قبل الڤيروس بكفاءة تفوق فرقة العسس الأولى بأضعاف، حيث أنه يستطيع أن يستشعر وجود هذا الڤيروس تحديداً. أما فيلق التعقّب فمهمته أن يقطع الطريق في وجه الڤيروس، مانعاً إياه من الاستنسال ومن التقدم صوب الدماغ؛ إذ أنه يقوم  بملاحقته والقبض عليه بمهارة قصوى إما في تيارات الدم أو بين صفوف الدبّيكة. يُعرف هذا الفيلق علميا باسم المضادات الحيوية. المُثير في الأمر بأن تلك المُضادات تبقى لسنين طوال متأهبة ومُتمترسة داخل ثكنات عسكرية مُتحركة تُعرف باسم خلايا الذاكرة المناعية. لحظة دخول ڤيروس شلل الأطفال (فقط!) تنطلق هذه المُضادات من ثكناتها لتنقض عليه كزخّات الرصاص. لهذا السبب لا يستطيع  ڤيروس شلل الأطفال أن يهاجم ذات الجسد مرتين. هذا الجزء من خطة الجسد الدفاعية يُعرف بالمناعة التكيفية. الفرق بين جهازي المناعة هو أن الأول يشن هجومه بشكل عام (غير متخصص) بمجرد استشعار الغريب كائناً من كان. أما الثاني فهو مُتخصص في مكافحة هجومِ دخيلٍ واحدٍ فقط، مما يرفع من مستوى السرعة، والمرونة، والحرفية في آليات الجسد الدفاعية لصدّ غزوة ذيّاك الميكروب، وملاحقته كيفما وأينما حاول الاختفاء والتخفّي.

 لحظة النصر الكُبرى، والتي تُهدد أمن الجسد، هي التمكن من الوصول إلى الدماغ. وعلى الڤيروس أن يبني جحافلا عتيدة ليُحقق هذا المُبتغى، وفي أسرع وقت ممكن. عادة ما يقوم الڤيروس بتنفيذ مخططه الجهنمي قبل أن يتم تفعيل جهاز المناعة التكيفية، والذي يستغرق بضعة أيام لبضعة أسابيع لتكتمل جهوزيته، ضامناً بذلك غياب فَيلق التعقّب من أنهار الدم، ليسبح بكل استطاعته إلى مقر الدماغ، بعد أن يكون قد اسْتَنْسل جيشه العتيد في خلايا القناة الهضمية. لكن كيف يتمكن الڤيروس من احتلال عددٍ من الخلايا في وجود أجهزة المخابرات الخلوية (المناعة الفطرية)؟ بعض الڤيروسات – بما فيها ڤيروس شلل الأطفال – مُدرّبة وجوديا لتفوق في براعتها وسرعتها كل إمكانيات أجهزة المُخابرات الخلوية. حتّى لو تم اكتشاف الڤيروس، فإنه يستمر في تنفيذ مَهمته قبل حصول التنسيق الأمني بشكل كامل بين أجهزة المُخابرات. وبهذا يتمكن من التكاثر بشكل مجنون لإفشال محاولات رَدْعه. وبشراسة، تندفع ملايين الجيل الجديد لِهَدم جدران الخلية ساحقةً كُلّ من/ وما يعترض طريقها. لحظة الخروج، يبتدئ الڤيروس بتنفيذ المِحور الثاني من الخطّة؛ التٓقدم صوب الدماغ بجَيشٍ عرَمرَم عبر تيارات الدم. وفي ظل غياب فيلقي التعقّب والتدمير الخلوي يستمر الزحف الڤيروسي والذي يستثمر كُلّ جزء من الثانية لإحراز النصر.

جديرٌ بالذكر بأن  مهمة التصدي الأولية للكائنات الدقيقة التي تهاجم أجسامنا بتصميم مُنقطع النظير، يقع عَلى كاهل جهاز المناعة الفطرية، والذي ينجح في صد بعض الغارات دون طلب العون من جهاز المناعة التكيفية، ودون إحداث أيِّ شوشرة في الجسد. ولكن إذا كان الميكروب فاشِيّاً كڤيروس شلل الأطفال، فإن ذلك يستدعي حتماً استدعاء جهاز المناعة التكيفية. السؤال الذي تٓدحرج في عقول العلماء والأطباء المُهتمين لأمرنا هو: كيف السبيل إلى التواصل مع أجهزة الأمن في الجسم لتزويدها بكافة المعلومات التي تحتاجها عن العدو المُحتمل، لتتمكن من تجهيز فيلقي التدمير الخلوي والتَعقّب (جهاز المناعة التكيفية)، قبل حدوث الغزو، ليكون الجسد مستعداً للمواجهة؟ فكانت فكرة الشتات…

أبطال المعركة

العسس الفرقة الأولى  (Natural Killer Cells): أحد أنواع خلايا الدم البيضاء.

العسس الفرقة الثانية (Dendritic Cells):  أحد أنواع خلايا الدم البيضاء، وهي حلقة الوصل بين جهازي المناعة الفطرية والتكيفية.

جهاز مخابرات الخلية (Toll Like Receptors) : جزيئات بروتينية مهمتها التعرف على الجزيئات الغريبة في الخلية.

فيلق التدمير الخلوي (Ctyotoxic T Cells): خلايا متطورة من خلايا الدم البيضاء متخصصة بنوع واحد من الميكروبات، تقوم بتدمير الخلية المُستعمَرة، حين تستشعر وجود الميكروب في داخلها.  

فيلق التعقّب (Antibodies) : المضادات الحيوية، هي جزيئات بروتينية تُصَنّع بواسطة الخلايا البائية (B cells) – أحد أنواع خلايا الدم البيضاء – استجابة لحدوث إصابة ميكروبية.

مركز التدقيق الأمني (Helper T Cells) : أحد أنواع خلايا الدم البيضاء، تتعرف على الميكروب عن طريق ال Dendritic Cells

الاستراتيجيات المُستخدمة في المعركة (الجسد)

 البحيرة الحارقة في المعدة (Gastric Acid or Juice) : هو سائل هضمي موجود في المعدة يتكون من حمض الكلور وبعض الأملاح. هذه المكونات تَخَلَّق بيئة حمضية من شأنها أن تقتل العديد من الميكروبات.

الاستراتيجيات المُستخدمة في المعركة (الخلية) 

إطلاق النار (Phagocytosis) : القدرة على التهام الميكروبات و بقايا الخلايا بعد موتها. الخلايا التي تمتلك هذه القدرة تمتلك آلية حيوية في داخلها لتحليل المواد البروتينية والسكرية والعضوية والدهنية.

عمليات التنسيق الأمني والرسل (Cytokines) بروتينات صغيرة ومتنوعة تعمل الخلية على إفرازها لحظة استشعار الميكروبات. إفراز هذه البروتينات هو جزء أساسي في مقاومة الهجوم الميكروبي، وتترافق مع ظهور بعض المؤشرات المٓرضية على الجسد المُصاب، كارتفاع في درجة الحرارة، والشعور بالإرهاق، أو الغثيان في بعض الأحيان. 

عملية الاستشهاد (Apoptosis) : تقوم الخلية في حال استشعار الخطر بتفعيل العديد من التفاعلات الكيموحيوية، تقود في النهاية إلى ضمور الخلية وتلاشيها.

تصوير الڤيروس (Major Histocompatibility Complex): جزيئات بروتينية تعيش على سطح الخلايا،  ومهمتها احتواء جزيئات بروتينية مختلفة صغيرة من داخل الخلية، ليتم عرضها على خلية أخرى. كما تعرض فرقة العسس الثانية جزيئات الڤيروس البروتينية على مركز التدقيق الأمني.

تدريب القوات الخاصة (Cell Evolution): بعد التعرف على بروتينات الڤيروس تقوم بعض الخلايا التَّائية (T cells) والبائية (B cells) بالانقسام والتطور بشكل متخصص بالاعتماد على شكل بروتينات الڤيروس (جُثّة الڤيروس)، لتنتج فيلقي جهاز المناعة التكيفية.

الاستراتيجيات المُستخدمة في المعركة (الڤيروس)

الاستنسال (Virus Replication) : يقوم الفيروس بالتكاثر عن طريق آلية الخلية في النقل والترجمة بعد السطو عليها (كما ورد في الجزء الأول)

الخروج من الخلية (Budding) : يضع الفيروس نفسه في غلاف دهني بروتيني يُمَكنه من اختراق الخلية من الداخل للخارج.

الموقع الجسدي للمعركة

خلايا القناة الهضمية (Epithelial Cells)

مجرى الدم (Blood Stream)

أهازيج المعركة وضوابطها

النشيد الجسدي؟؟؟

الميثاق الوجودي؟؟؟