للڤيروسات، كما للبشر، أماكنٌ مُحببةٌ للعيش والتكاثر، ويمكن أن نسمّيها، تجاوزاً، أوطاناً! هذه التسمية قد تنطلق من مفهوم وجودي/عبثي. فالڤيروسات، شئنا أم أبينا، كائناتٌ -مثلنا- تحاول التناسل والصمود لتأخذ حصّتها من الحياة، وحيرة المهتمين في رسم حدود الڤيروس الوجودية لا تزيد ولا تنتقص من هذه الحقيقة.

الڤيروسات حيّةٌ بقدر ما هي ميتةٌ؛ شهوتها الجنسية قد تصل إلى حدود الشبق، وقُدرتها العبثية على التّخفي في خنادق الموت قد تصل إلى حدود التلاشي (المزيد من هذا الجدل في الجزء الأول). على الرغم من سيولة هذه التسمية إلا أنها قد تُذكي جَذْوَة النْعرة الأخلاقية، فكيف ننعت الخلّية المُحببة للڤيروسات بالوطن في حين أن الڤيروس كائنٌ مُسْتَعْمِر، والخلية كيانٌ مُسْتَعْمَر. ربما قد يساعد التعريف اللغوي لمفردة وطن، بعد فَسْخِه عن مَجَازِه، على التخفيف من وطيس نعرة الأخلاق تلك. الوطن في معجم المعاني الجامع، هو مكان إقامة الإنسان، والمكان الذي ينتمي له. وأيضاً هو مِربض الغنم والبقر الذي تأوي إليه. يُشير هذا التعريف إلى الوطن كمكانٍ تقصده الكائنات لتحظى بالسكون والراحة والسلامة في العيش، ولكنه يُبسطّ مفهوم الوطن من وجهة نظر إنسانية، حيث إنه يضعنا نحن البشر في نفس المرتبة مع الدَّوَاب. فالوطن مُلتحمٌ بمجازِه من وجهة نظر الكائنات البشرية؛ فهو يحمل العديد من الدلائل الرمزية والنفسية التي تتجاوز حدود المكان والسلامة والجنس. وقد تَمَكّنت تلك الكائنات (أقصد البشر) على مر العصور من تسخير الفن كالمسرح والموسيقى والشِّعر للتعبير عن الوطن كمفهومٍ تتلاقطه أمواج الأيدولوجيات. ولكن، في سياق هذا المقال، سيتم وضع الفن والعَنْطَزة البشرية على الهامش ويكون الاعتماد على المُفردة اللغوية للوطن، ليتم التعامل مع الكائنات جميعاً، بما فيها الڤيروسات، بشكلٍ متساوٍ على الصعيد البيولوجي. إذن، بالاتِّكَاء على التعريف المُبسّط للوطن، الخَالي من المجاز والاستعارة، فإن جميع الكائنات حرّة لتختار موطنها، والذي هو مكان إقامتها وراحتها لتمارس الحياة كما تشاء؛ والڤيروسات، ككائنات لها خصائص حيّة، مشمولة في هذا التعريف. انطلاقا من هنا، أصبح مباحاً القول بأن ڤيروس شلل الأطفال  يتّخذ من خلايا قنواتنا الهضمية وطناً له، ليحيا، ويتناسل، ويأوي، ويقتُل ويُقتَل.

إن سلب حرية الكائنات وإرغامها على العيش في أوطانٍ مختلفة، سيجبرها على التبدّل والتّغير والتكّيف لتتمكن من مواصلة الحياة وتفادي الموت في الأوطان الجديدة، أوَليست الحياة هي المُبتغى؟. وبعد مرور عدة أجيالٍ في الوطن البديل، سيبزغ جيلٌ معدّلٌ طازجٌ. جديدْ. لا تربطه أيّ صلة بالوطن الأم؛ لا هوية ولا تآلف ولا قدرة على العيش ولا شحار. من هذه الفكرة المعجونة بالأهوال تم التوصل لما يُعرف اليوم باللُقاح. اتفق العُلَماء على تشتيت ڤيروس شلل الأطفال (والعديد من الڤيروسات الأخرى) بإرغامه على العيش في وطنٍ بديل، لمدة تصل إلى العشرين جيلاً ونيّف(اً). ومن ثم يتم القبض على هذا الجيل، ويوضع مُجددا في وطنه الأم.

قام العلماء بعزل خلايا السعادين الكلوية ووضعوها في طبق مخبري وقاموا بتنميتها. هذه الخلايا السعدانية معروفة بعدم قدرتها على صد أي هجوم ڤيروسي بسبب تخاذل أجهزتها الأمنية (الجزء الثاني يقدم عرضاً للأجهزة الأمنية من قلب الحدث)، ولذلك تم اعتمادها كوطن بديل لمعظم الڤيروسات. يتم حقن ڤيروس شلل الأطفال الفاشستي -غصبن عن راسه- في هذه الخلايا، ويُترك ليعيش ويتكاثر داخلها في داخل الطبق المخبري. جديرٌ بالذكر، بأن أجيال الڤيروسات تتكون في غضون ساعات، على النقيض من بعض الكائنات الأخرى كالإنسان والذي يحتاج إلى ثلث قرن لطرح جيلٍ جديد. بعد عدة ساعات، يتم عزل الجيل الأول من الطبق المخبري، ويُحقن في خلايا سعدانية جديدة ليتناسل من جديد. وتستمر عملية صناعة الأجيال حتى  بلوغ الجيل العشرين لضمان حصول التبدّل المطلوب. خلال هذه العلمية يتم إرغام ڤيروس شلل الأطفال على العيش في وطن بديل (الخلايا السعدانية) بدلاً من وطنه الأم (الخلايا الإنسانية).

منذ لحظة دخول ڤيروس شلل الأطفال (الجيل رقم صفر أو جيل الأجداد) في الخلايا السْعدانية، يستشعر الڤيروس غرابة المكان، فالأشياء والمَعالم كلها جديدة، لا شيء يشبه شيئاً، ولا شيء في المدى إلّاك؛ هنا بداية الشتات إذن. حينئذ يبتدئ الڤيروس بإدخال بعض التعديلات على شريطه النووي ليتأقلم مع المكان/المنفى/الوطن-الجديد (الجزء الأول يستعرض ميكانيكية ودور الشريط النووي). هذه التعديلات لا تحدث بشكل سريع ومَرن، فهناك أفرادٌ داخل الجيل نفسه لا تقبل التغيير ولا تساوم. لذلك لا تُحدث أي تعديل على أشرطتها النووية، وهنالك من يُعدَّل بالاتجاه الخاطئ (هيك جكارة على صيغة مقاومة)، أما التعديلات التي تتناسب مع المكان الجديد ستسود، وتتكاثر. عندئذ يقوم جماعتنا العُلَماء بالقبض على الڤيروسات المُعدّلة بشكل “صحيح” لحظة الخروج من الخلايا في الطبق المخبري. التعديلات التي حصلت لا تعني بأن الجيل الجديد قادرٌ على أن يحيا بسعادة في الخلايا السعدانية. فالوقت المُتاح في الجيل الواحد لا يكفي لإدخال كافة التعديلات التي ستسمح للڤيروس بالتّكيف المُطلق في الوطن الجديد. لذلك يتم اختيار الجيل العشرين كجيلٍ مضمونٍ في ولائه للوطن الجديد. وفي نفس الوقت مُنهنه الهوية، فاقد التاريخ لا يعرف شيئاً عن الوطن القديم/الأصلي. يتم عزل هذا الجيل ووضعه في مادة طبية لتحافظ عليه، ولتسمح بإعطائه لنا نحن البشر على صيغة لُقاح عن طريق الفم أو حقن بالوريد.

نحن البشر نشكّل وطن الڤيروس القديم، لذلك سيدخل -الڤيروس المُعدّل – إلى خلايا القناة الهضمية تائها، منهنهاً، دائخاً، لا يعرف الطيخ من البطيخ. سيتكاثر هنا وهناك ، ولكن لن يستطيع إلى الدماغ سبيلا ولو حلّقت العنزة في السماء. لذلك لا ولن يُشكّل أيّ خطورة على الجسد. هذا العُطب الوجودي الذي أحدثه العلماء في سلالة الڤيروس، سيجعل من مهمة جهاز المناعة، في القبض على هذا الأحمق وتصويره وحفظ صورته في أرشيف صور الأعداء، لقمة سائغة ( الجزء الثاني للتعرف على كُنْه وأهمية عملية التصوير). وبذلك يكون العلماء الأشاوس قد تمكنوا من تزويد الجهاز المناعي بكافة المعلومات اللازمة لتشكيل منظومة دفاعية متخصصة لصد هجوم الجيل الشرس (الجيل الأول) لهذا الڤيروس قبل وصوله إلى الجسد. ذلك لأن صورة الڤيروس المُنهنه وجوديا لا تختلف عن صورة الڤيروس الأولي (الشرس) ولكن كفاءته الوجودية بالتكاثر والانتماء شبه معدومة مما يجعله وسيطاً جيداً لتغذية جهاز المناعة بالمعلومات المطلوبة.

ملاحظة: هناك أكثر من طريقة للحصول على اللقاح، ولكن طريقة النهنهة عبر الأجيال هي الأكثر نجاحاً والمُعتمدة عالمياً لتدريب أجهزتنا المناعية على صد الغزوات.

مُلاحظة أخرى: تم الفتك بآلاف السعادين في سبيل شكم وحشية الڤيروس!

مُلاحظة أخرى أيضاً: بعض الڤيروسات يتلون كالحرباء؛ له هوية شيطانية زئبقية لا يُمكن نهنهة هويته عبر الأجيال ولا عبر أي شيء، كالإيدز.